يشعر المصريون منذ تنحي مبارك بانتشاء لا يمكن وصفه إذ تمكنوا بجمعهم ووقفتهم العنيدة من تحطيم أصنام السياسة الذين كانوا يرتعبون بمجرد ذكر أسمائهم على اللسان ، وإذا بهم يتساقطون في مهاوى الإقالات والمحاكمات والإقامات الجبرية ، وانكشاف ملفاتهم السوداء ، لتدب على وقع تلك العجائب روح جديدة مختلفة في كل مصري .
ولم يكتف المصريون برحيل الساسة التقليديين ، بل صاروا يتلفتون حولهم لاقتناص كل مسئول أو مدير وانتزاعه من موقعه ، لا ينتظرون قرارات من أعلى بالعزل ، كيف ذلك وهم قد عزلوا علية القوم أنفسهم ، أفنعجز عن من هم دونهم ، وما السبيل إلى ذلك ، وهل من سبيل غيره ، إنه الاعتصام والوقفات الاحتجاجية ، وانتشرت الاعتصامات والوقفات وعلت الهتافات حتى لم يكد يخل موضع من ضجيجها .
ومن بينها جامعة القاهرة ، وفي الكلية التي أدرس بها رأيت سيناريو الثورة مصغرًا ، بوابة الكلية تزدحم بطلبة معتصمين تحف بهم يافطات المطالبة برحيل عميد الكلية وإدارته التي يرونها فاسدة ، وفي يوم تالٍ رأيتهم وقد اقتحموا بهو الكلية تتردد صيحاتهم في جنباتها ، وفي يوم يليه رأيت عجبًا ، عدد من الخيم عند البوابة ، ولا طلاب ، أين هم ؟ دخلت فسمعت هتافهم وإذا بجمعهم قد تكالب على باب مكتب العميد نفسه ، ولا أدري أهو بداخل مكتبه أو لا .
وفي موضع آخر رأيت جمعًا من الموظفين قد تدافعوا على مدير لهم وهم يشنعون عليه بهتافاتهم ، وقفت أرصد المشهد العجيب ، وما هي إلا لحظات حتى أقبل رجال من الشرطة العسكرية من لابسي الطاقيات الحمراء ، فإذا بالموظفين المحتجين يهتفون ( الشعب والجيش إيد وحدة ) ، لينتشي على وقعها رجال العسكرية ، ويقتحمون مكتب المدير وطبعًا ما على المدير إلا أن يلملم أوراقه طوعًا للشعب كما فعل رئيسه من قبل .
وفي طريقي إلى دار الكتب المصرية وأنا في ( الميكروباص ) رأيت تظاهرة عند مبنى التلفزيون ولا تحتاج طبعًا أن تقرأ لافتاتهم لتعرف أنهم يطلبون الإطاحة بإدارته ، فقد أصبح هذا المشهد مألوفًا ، ويثير جدلاً بين المصريين بين معجب به ومتبرم منه ، وكان الجدال محتدًا بين بعض الركاب وسمعت أحدهم يقول متهكمًا : ذه دلوأتي كل من زعلته مراته نزل يعمل اعتصام .
بل إن المصريين يحاولون الآن أن يثوروا على حياتهم العامة فترى دعوات جمة مكتوبة تدعو إلى أن يسري التغيير ليطال السلوك العام نحو عالم المثل ، باحترام مواعيد العمل ، بصدق المعاملات ، بالمحافظة على المال العام ، بالوقوف ضد المسيء حيثما كان ، بالالتزام بإشارات المرور ، بالمحافظة على نظافة الشارع ، وهلم جرًا .
لقد غيرت الثورة كثيرًا في سلوكيات المصريين الذين يشعرون شعورًا عنيفًا بملكيتهم للثورة الظافرة ، فترى الأعلام تباع في الميادين العامة وعند الإشارات المرورية ، ويباع معها شارات الثورة من فانيلات أو ملصقات عليها علم الدولة أو صور للشباب من الشهداء أو صور ساخرة لرموز النظام السابق ، وأبرز تلك الملصقات انتشارًا ملصق على شكل لوحة أرقام سيارات مقسوم إلى مستطيلين أعلاها مكتوب عليه مصر وأسفلها يتقاسمه خانة لرقم تاريخ الثورة ( 25 ) والخانة الأخرى لاسم شهر الثورة ( يناير ) ، ولا تكاد الآن ترى مركبة إلا وتضع ذلك الملصق شريكًا لرقمها المروري .
لقد أصبح الشعب المصري يشعر الآن أن البلد بلده والدولة دولته ، وأصبح من المعتاد أن ترى في مواضع عديدة صورًا للعلم المصري وقد ملئ بالأسماء المصرية عربية وقبطية ومكتوب في وسطه ( كلنا مصر ) ، إنها لم تعد بلد الحكومة ، بل إن الحكومة بما فيها الجيش مجرد خادم مطيع للشعب الآمر الناهي الذي أصبح لسان حاله يقول قد أفلح اليوم من اعتصم واحتج وجلجل بصوته عاليًا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق