كثيرون هم أدباؤنا الذين نشأوا على أرض حضرموت وبرزوا فيها ثم تلقفتهم أيدي الاغتراب ليواصلوا نبوغهم وتألقهم في مواطن اغترابهم ، ومن هؤلاء قديمًا امرؤ القيس الكندي ، ومنهم في عصرنا هذا علي أحمد باكثير .
إن هناك أمورًا جمة مشتركة تجمع بين هذين الأديبين الحضرميين الكبيرين ، فمنها انتماؤهما إلى قبيلة واحدة هي قبيلة كندة التي يصفها المؤرخون بأنها أول قبيلة عربية حاولت جمع العرب في كيان سياسي واحد .
وكلاهما عاش ربيع حياته في وادي حضرموت ، ثم اضطره فقد عزيز للهجرة ، فامرؤ القيس فقد أباه فارتحل لبناء مجده السياسي ، وباكثير فقد زوجته فارتحل لبناء مجده الأدبي ، ومع ذلك كان كلاهما مشدودة روحه إلى وطنه الأول وانعكس ذلك في أعمالهما الأدبية .
كما جمع بينهما الإبداع الشعري والابتكار في فنونه بشهادة نقاد الأدب ، فعن الأول ذكروا أمورًا ابتكرها منها أنه أول من وقف واستوقف على الأطلال وبكى واستبكى ، وسبق إلى صور شعرية بديعة ولاسيما في وصف رحلاته المبكرة للصيد على ظهر حصانه ، وفي هذا الإطار يقول المؤرخ الأديب سعيد عوض باوزير :
" إن شعر امرئ القيس الكندي أصدق وأوضح صورة للمستوى الرفيع الذي وصل إليه الأدب في حضرموت " .
كما شهد نقاد الأدب لباكثير بإبداعات سبق غيره إليها منها أنه أول من ابتكر النظام الوزني الجديد للشعر العربي بما سمي بشعر التفعيلة أو الشعر الحر ، ومنها أنه أول من رسخ نثرية فن المسرحية وكتب المسرحية التسجيلية ، وغير ذلك مما يعلمه المهتمون بأدب باكثير والأدب العربي الحديث .
وفوق ذلك نراهما مع اغترابهما الطويل عن موطنهما الحضرمي لم يغفلا عن روحهما الحضرمية التي تجلت في أعمالهما الأدبية التي تشهد لمن يقرأها بأصالة انتمائهما الوطني لأرضهما وقومهما ، ومن ذلك استعمالهما مفردات وتراكيب فصيحة من اللهجة الحضرمية .
فإذا تأملت مثلاً معلقة امرئ القيس فلن تشك في حضرمية قائلها ، إذ ستلفت نظرك وسيقرع سمعك كلمات مثل ( غدوة ، مساويك ، السليط [ الزيت ] ، الكثيب ، الحنظل ، المداك ، ناقف ، بعر ، بعير ، الوليد [ بمعنى الصبي أو الغلام ] ، عروس ، حناء ، درع [ لباس للمرأة المسنة ] ، منارة ، فتيت ، حطه السيل ، يكب ، خيط موصل ) وغيرها .
إضافة إلى بعض الاستعمالات اللغوية المعروفة في اللهجة الحضرمية كاستعمال مفردة ( يوم ) بمعنى حينما كقوله :
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجل
واستعمال الفعل ( تقول ) بقصد التشبيه والوصف كما في بعض قصائده خارج المعلقة كقوله في وصف حصانه :
كالسِّيْد ما استقبلته وإذا ولى (تقول) ململم ضرب
والأمر نفسه نلاحظه عند باكثير في إيثار المفردة أو التركيب الأقرب للهجته الحضرمية في بعض كتاباته ، نضرب مثالاً بمقاطع من مسرحيته ( دار لقمان ) :
( يُسمع دق شديد على السدة الخارجية )
وهو تعبير قريب من لهجته الحضرمية وقد اختار لفظتي ( دق ) و( السدة ) على لفظتي ( طرق وبوابة أو عتبة ) مثلاً .
( تعود ناعسة ببقجة فتعطيها لأحمد فيفتحها أحمد ليرى ما بها ثم يعيد عصبها )
نجد فيها روح اللهجة الحضرمية ولاسيما في استعماله لمفردة ( بقجة ) التي ينطقها الحضارمة ( بقشة ) – وأصل الكلمة فارسي بمعنى صرة الثياب - ، ومثله الفعل ( عصب ) المتداول في لهجتنا ويترفع عنه اليوم كتابنا مفضلين بدلاً عنه الفعل ( ربط ) المعتاد في الكتابات المتأخرة .
ومثال آخر في قول السلطانة ( شجر الدر ) وهي توبخ مساعديها على تلاومهم وتجادلهم أمامها : ( تتناقرون أمامي كالديكة ) ، وهو تعبير معروف وسائد في تلك الحالة لدى الحضارمة .
ولعل باكثير كان مدركًا لحالات التشابه المتعددة بينه وبين جده امرئ القيس لذا نراه يقول من قصيدة له :
إذا لـم أقلـها فذة عبقـرية فلست لميراث امرئ القيس حاويا
وكل ما ذكر يؤكد قوة الرابطة الحضرمية بين الإنسان الحضرمي وقومه وأرضه ومحافظته على صدق انتمائه إليها ووفائه لها على مدى التاريخ .
أبيات لشاعر حضرمي مغترب :
متى يا حضرموت أراك يوماً وقد أصبحت للآســـــاد غابا
متى يا حضرموت أراك يوماً بنيت على مصـــانعك القبابا
متى يا حضرموت أراك يوماً وفيك العلم قد أضــحى عبابا
نسير إلى اقتناص المجد صفاً ولو زرع الطريق لنا حـرابا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق