الجمعة، 4 مارس 2011

قراءة في المشهد السياسي في محافظات جنوب وشرق اليمن ( 1997-2007)

   ترك الحزب الاشتراكي الذي كان ينفرد بالحكم في ( الجنوب ) فراغًا سياسيًا هائلاً بعد اندحاره منهزمًا في حرب صيف 1994م ، هذا الفراغ السياسي في ( الجنوب ) تنافس حزبان سياسيان على ملئه هما حزب المؤتمر الحاكم معتمدًا على إمكانياته كحزب حاكم في استقطاب كثير من الوجوه من مختلف فئات أبناء ( الجنوب ) ، والآخر هو حزب الإصلاح معتمدًا في الجذب لعضويته على العاطفة الدينية في منطقة يعرف أنها للتو خرجت من أجواء حكم كان يعد محاربًا للنزعات الدينية وكان أهلوها يتعطشون لحياة نقيض لما عاشوه في السنوات الخالية .
   فما الذي حدث ؟ لقد تمكن حزب الإصلاح من خطف معظم الوجوه السياسية الناشئة في (الجنوب) ذات المنحى الإسلامي والإصلاحي وذات المصداقية الشعبية والتي كان من الطبيعي أن ترث السلطة في ( الجنوب ) بعد خروجه من فترة عاش فيها تغريبًا فكريًا وانحدارًا تنمويًا شمل كل الأصعدة في حياة المواطنين ، أما حزب المؤتمر فقد تخطفه بقايا ممن كانوا منضوين تحت مظلة الحزب الاشتراكي الحاكم السابق ( للجنوب ) ممن كان ذلك الحزب قد نبذهم ضمن صراعات الأجنحة في داخله وبقوا في حالة جمود حتى رمى لهم حزب المؤتمر طوق النجاة فتعلقوا به فعادوا للتفريخ والنمو حتى شغلوا مع تابعيهم بخبرتهم السياسية السابقة مفاصل فروع ( الحاكم الجديد ) في وقت كان فيه ( الجنوب ) عشية تحقيق الوحدة في حالة تقيؤ من تلك الوجوه التي ملها وملته .
   وبهذا أصبح المشهد السياسي في ( الجنوب ) موزعًا على ثلاثة قوى سياسية فقوى جديدة اتسمت بالجدية والمصداقية لكنها علقت في شباك حزب الإصلاح ، وقوى تقليدية تعلقت بالحزب الحاكم استفادت منه وشكلت عبئًا عليه ، وقوى هي بقايا المنهزمين ممن ما زالوا محتفظين بولائهم للحزب الحاكم السابق في ( الجنوب ) ، وهؤلاء منهم من لحق بإخوانه ممن تعلقوا بالحاكم الجديد ومنهم من فضل الترقب والتربص حتى حانت فرصته في الأزمة الحاضرة مستفيدًا من أخطاء الفريقين على مدى نحو اثني عشر عامًا . فكيف نشأت المشكلة من بين أولئك اللاعبين في الساحة السياسية ( الجنوبية ) ؟
   قلنا إن حزب الإصلاح ذا المنحى الإسلامي قد استفرد بالوجوه السياسية الناشئة ذات المصداقية الشعبية عند المواطن العادي في ( الجنوب ) والتي كانت لا تستطيع مزاولة العمل السياسي في ظل سيادة الحزب الذي يخالفها وتخالفه قبل الوحدة ، لكن ما حدث هو أن حزب الإصلاح قد كرس من حيث لا يريد ما كانت تعاني منه تلك القوى من تجميد وبعد عن المشاركة السياسية في صناعة القرار وحرمها من رؤية آمالها الإصلاحية تنفذ على أرض الواقع ، وذلك بسبب فشل هذا الحزب منذ عام 1997 في الوصول إلى السلطة أو المشاركة الحقيقة فيها ، وهو العام نفسه الذي اكتسحت فيه تلك القوى معظم دوائر ( الجنوب ) الانتخابية باسم حزب الإصلاح ، ثم وجدت نفسها قاعدة على كراسي البرلمان الوثيرة في صنعاء لكنها بعيدة كل البعد عن أن يكون لها أي تأثير في إدارة الأمور في مواطنها التي فازت فيها ووقفت عاجزة محرجة أمام مواطنيها الذين انتخبوها لا تملك من الأمر شيئًا سوى بث الشكوى والتذمر أمامهم من أغلبية الآخر الساحقة التي غلبتهم على أمرهم ، وأبقت في الحكم خصومهم السابقين من الاشتراكيين .
   وفي المقابل كان الملتفون حول كعكة فروع ( الحاكم ) في ( الجنوب ) يتقاسمون تلك الكعكة التي لم يسهموا في إعدادها بل جاءتهم جاهزة من ( الشمال ) بالفوز الساحق الذي حققه حزب المؤتمر هناك ، فلم يرعهم الفشل الذريع الذي منوا به بين مواطنيهم لأنهم قد ضمنوا المكوث على مناصبهم في إدارة الدولة في مناطقهم بفضل تلك الأغلبية التي حازها المؤتمر في ( الشمال ) ذي الأكثرية السكانية التي تشكل أضعاف عدد السكان في ( الجنوب ) ، ومن ثم اتسمت تلك العناصر بالسلبية وضعف الفاعلية فهي لا ترى نفسها مضطرة لنيل ثقة مواطنيها ولا إلى خطب ودهم لأنها أعرف بنفسها وبماضيها وبموقف الناس منها ولأنها مطمئنة إلى الخلود في مواقعها القيادية ببركة الأصوات ( الشمالية ) ومن ثم لم تعكس النبض الحقيقي لهموم ومشاغل مواطنها في ( الجنوب ) واكتفت بالمصانعة والمداهنة المزيفة لرؤسائها في قيادة ( الحاكم ) في صنعاء .
   وعبثاً حاولت قيادة ( الحاكم ) في صنعاء كسب ولاء الناس في ( الجنوب ) -والحال هذه- عبر سلسلة من المشاريع التنموية كان ( الجنوب ) في حاجة ماسة وحقيقية لها شملت صعدًا مختلفة كان من الممكن أن تحسب له لو أنه صاحبها بإصلاحات تنظيمية حقيقية في فروعه في ( الجنوب ) وانتبه مبكرًا لبعض مشاكله الحساسة ،  والحقيقة أن ذلك الحضور التنموي قد ساعد بصورة مؤقتة في إيجاد نوع من الرضا وطول الأناة عند مواطني الجنوب كما ساعد على أن يكسب المؤتمر وجوهًا محدودة ذات كفاءة ومصداقية من أبناء الجنوب ، ومكنه كل ذلك من الفوز بأكثرية دوائر الجنوب في انتخابات 2003 م .
   لقد كان اتجاه مواطني ( الجنوب ) إلى اختيار مرشحي ( الحاكم ) في تلك الانتخابات نتيجة لسببين أولهما لما ذكرناه آنفًا ، والسبب الآخر معاقبة مرشحيه السابقين على عجزهم عن تحقيق أي دور في إدارة حياته التي استولى عليها أولئك الذين يكرههم ويكرهونه ويجد نفسه مضطرًا للتعاطي معهم في شئون حياته اليومية في الإدارات والمصالح الحكومية ، أما من اختارهم وأعطاهم صوته فلا يراهم إلا في أحد موضعين إما أن يراهم في جهاز التلفزيون مرتدين للبدلات وهم متربعون على مقاعد البرلمان ، وإما أن يراهم أمامه متلفعين بأثواب الحداد يلطمون وجوههم وخدودهم شاكين خيبتهم وعجزهم عن التأثير وينحون باللائمة عليه ( كناخب ) أن لم يعطهم الأكثرية اللازمة لينافس أغلبية ( الحاكم ) ، وطبعا المواطن البسيط في ( الجنوب ) يدرك أنه ليس بإمكانه أن يعطي هؤلاء من الأصوات أكثر مما أعطاهم إياه وأن هؤلاء بدلاً من أن يشكروه ويخدموه بعد ما أوصلهم لقبة البرلمان غدوا يطالبونه بالمستحيل وصار لسان حالهم يقول لا طاقة لنا اليوم ( بالحاكم ) وأغلبيته .
   لقد اختار مواطن ( الجنوب ) أن يكون أكثر واقعية باختيار من قدمه له ( الحاكم ) من وجوه مقبولة وكنوع من الاعتراف بالجميل لما وضعه من مشاريع تنموية ازدان بها وجه ( الجنوب ) ولاسيما في مدنه الرئيسة ، وعلى أمل أن يظفر بمن يمكن أن يتجه لحل قضاياه وشواغله الحياتية التي باتت تزداد تعقيدًا بمرور الأيام ، لكن هؤلاء الفائزين من مرشحي الحاكم لم يكد ينفض سوق الانتخابات حتى طاروا إلى العاصمة صنعاء ليتبوءوا مقاعدهم في البرلمان أو الحكومة أو في قيادة (الحاكم) ، تاركين مواطن ( الجنوب ) يصطرع وحده مع ذات الوجوه في المفاصل الإدارية بمناطقه ، فلم ير ما كان ينشده من تغيير لفاسدين خبرهم مع طول الأيام ويبادلونه كرهًا بكره ، ولم يستطع أولئك البعيدون عنه نقل نبضه وشكواه إلى أصحاب القرار لتنتج جدية في المعالجة ، فقد ظن أولئك المهيمنون الحقيقيون على فروع ( الحاكم ) في ( الجنوب ) أن مهمة تلك الوجوه التي فازت قد انتهت بتحقيق النصر الشكلي الانتخابي ، فهي قد فازت بمقاعدها في السلطة في صنعاء كما فازوا هم بالحفاظ على مقاعدهم في إدارة شئون المواطن المغلوب على أمره في (الجنوب) وأنهم قد كسبوا الجولة على ذلك المواطن وأنهم قد تمكنوا من خداعه وإيقاعه في شراكهم وهكذا ازدادت حالة المواطن سوءًا وتعقيدًا على مر الأيام وتوصل إلى يقين بفقدان قيمة مشاركته السياسية ، بعد تجارب انتخابية متعددة في تغيير وضعه في الجنوب واختياره بنفسه من يحكمه ، وساء ظنه بالأحزاب السياسية القائمة حاكمًا ومعارضة على السواء ، فهو لم ير تغييرًا بانتخابه ( للحاكم ) لا على مستوى الإدارات والمصالح المحلية ولا على مستوى مرشحيه في العاصمة الذين لم يتفهموا شواغله وهواجسه فضلاً عن نقلها إلى أذن صانعي القرار السياسي ، كما أنه لم ير تغييرًا بانتخابه لمن كان قد أولاهم ثقته في البداية ، لأنهم لم يتمكنوا من زحزحة الفاسدين العابثين إضافة إلى كونهم كذلك لم يتمكنوا من فهم واستيعاب بعض همومه الحساسة إلا متأخرًا ، وكان الواضح له أن ما يحيل بينه وبين تحقيق ما يصبوا إليه من تمكين ممثليه الحقيقيين من حكمه هو الأصوات ( الشمالية ) التي تتجه معظمها إلى تثبيت حزب المؤتمر الحاكم الذي بدوره يثبت له في ( الجنوب ) تلك الوجوه التي لا تعبر عنه ولا تأبه له .
   وفي المحصلة لم يتمكن مواطن ( الجنوب ) من رؤية من يختارهم ليمثلوه ويحكموه عبر التجارب الانتخابية المتعاقبة قادرين فعليًا على حكمه وإنصافه وذلك بسبب ( الأصوات الشمالية ) التي تختار ( حاكمًا ) ليس له فروع حقيقية في ( الجنوب ) وإنما هي زمرة من الحريصين على مصالحهم الخاصة عبر سلطة يتنفسون فيها برئة ( الشمال ) ومن ثم لا يمثل لهم ساكن ( الجنوب ) أي قيمة ، فصوته غير مؤثر ما دام الصوت ( الشمالي ) يضمن لهم الحكم المجاني متحكمين على رقاب البلاد والعباد ، ومن ثم بالأحرى لم يوصلوا إلى صانعي القرار في صنعاء نبضه وهمومه وشواغله الحقيقية بل بالعكس ساهموا في تكريسها وترسيخها بهيمنة روح النفاق والمجاملة والمداهنة في صفوفهم ، وكل رسائلهم للمركز كانت فحواها ( كل شيء على ما يرام ) وهو أمر صحيح بالنسبة لأوضاعهم ، وهل تملك أن تقول غير ذلك ؟ و حتى إذا أراد أحدهم أن يوصل بعض ما يعتمل في الشارع ( الجنوبي ) فماذا سيقول ؟ وكيف سيعبر؟ وهو يعرف حساسية هذا الموضوع بالنسبة إلى قيادته وما سوف يصوب إليه من سيئات الظنون التي قد تودي به وبموقعه وتحرمه من عسل السلطة إذاً فليسكت وليترك للزمن أن يفعل فعله في الجميع ، وهكذا كان فكانت الأزمة .. وكانت ( القضية ) .
   لقد بدأت الأزمة عندما فقد مواطن ( الجنوب ) أمله في كل شيء وأحس أنه رقم تائه وأنه غريب في بلاده ، لقد ضاق بكل شيء ، بل ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، فأقطاب السياسة العاملة من سلطة ومعارضة لم تفده بشيء ، فلا المعارضة استطاعت أن تنصفه وتوصل صوته بفعل عدم ثقة الحاكم بها واعتباره كل ما يصدر عنه نوعًا من النكاية والتهويل ، ثم إنها ضعيفة لم تستطع قيادة غضبه واستغلال غليانه لأنها في النهاية تحسب حساب الربح والخسارة عبر ( الأصوات ) التي لا يمثل منها ساكن ( الجنوب ) إلا شيئا يسيرًا لا يكاد يفيدها في الوصول إلى كرسي الحكم أو قريبًا منه ، كما أصم ( الحاكم ) آذانه عن سماع أي شكوى يرى فيها صوتًا نشازًا ينفرد فيه (الجنوب) ، مكتفيًا بالنظر في الشكوى العامة والمتمثلة في الفساد الإداري والمالي والغلاء ومطالب التنمية والإرهاب ونحو ذلك واكتفى بما ضخه للجنوب من مشاريع تنموية عمت معظم مناطقه وطفق يطالبها بالوفاء والاعتراف له بالجميل ، ولم يدر بباله أن يلتفت إلى هموم ومشاكل (للجنوب) من نوع آخر وأنى له ذلك والرسائل تأتيه من فروعه ( كل شيء على ما يرام ) .
   لكن غليان مواطن ( الجنوب ) كان مطردًا يتصاعد كل ما شعر بأن البساط يسحب من تحته وقد اجتمع فيه المواطن العادي الغاضب على حياته ومستقبله ومستقبل أبنائه من الوافدين المنافسين الذين لم ينفكوا عن التكاثر والتغلغل ، والمثقف المنزعج من محاولات طمس أو تشويه أو تجاهل المخزون الثقافي بمختلف صوره في ( الجنوب ) ولاسيما في بعض جوانبه لصالح نظيره في (الشمال) وهكذا أخذ ذلك الغليان صورة تململ شعبي عام من لغط مرتفع في المنتديات العامة للخاصة والعامة إلى مقالات حادة في الصحف المحلية إلى روح النفرة  التي سادت بين صفوف الشعب الواحدة ، وصار ذلك الغليان ينتظر من يتبناه ويقوده أيا كان شأنه أو توجهه .
   وهنا وجدت القوى الثالثة التي بقيت تنظر وتتربص فرصتها للظهور وأن المناخ بات صالحًا للتحرك فيه بفاعلية بعد أن كانت أصواتها مخنوقة ولا يكاد يسمع لها ولا يحسب لها أي حساب فتهيأت لها الفرصة الحقيقية التي كانت تنتظرها وقد باتت الساحة خالية أمامها من كل الفاعلين السياسيين وبات مواطن ( الجنوب ) يتلفت يمنة ويسرة لمن ينتشله ويقوده ويشعره بقيمته وبوجوده فتصدت تلك القوى للقيام بتلك المهمة وتبنت مطالب وهواجس مواطني ( الجنوب ) ، ولم تلبث أن رفعت سقف مطالبها إلى الدعوة إلى حل الدولة القائمة وإعادة دولة الجنوب السابقة في عدن ، ومع نجاح تلك القوى في تجييش المظاهرات والاحتياجات الشعبية شجع ذلك القوى (الإصلاحية) التي فشلت سابقًا في تحقيق طموحاتها في الحكم والإدارة انتخابيًا إلى الدخول على الخط لعلها تستطيع تحقيق مكاسب سياسية حرمتها منها أغلبية ( الحاكم ) على مدى السنوات السابقة حتى أصابها اليأس والقنوط وأحاط بها الإحراج من مواطنيها الذين وهبوها أصواتهم سابقًا ولم تستطع أن تفيدهم بشيء ، إذن فلتكن موجة الاحتياجات وسيلة لها في الضغط والوصول إلى مبتغاها ، أما الغائب الحاضر في هذه المجريات الجديدة فهي فروع ( الحاكم ) وقفت عاجزة عن فعل أي شيء سوى الصراخ و كيل التهم وتوزيع النعوت والألقاب كيفما تهوى لتخفي عجزها وحيرتها وحرجها أمام قيادتها في صنعاء ، وبدلاً من أن تستغل الوضع في أن تعمل بشجاعة لتشخيص الحالة التي أوصلت المواطن إلى هذا الهياج وتقديم الحلول الناجعة بحيث تستنير قيادتها بذلك التشخيص وتلك الحلول لفعل الإجراءات وإصدار القرارات اللازمة ، بدلاً من ذلك كله تركوا قيادتهم في حالة تخبط وحيرة في توصيف ما يحدث وفي تحميل المسئولية لأطراف غامضة أو خارجية بدلاً من أن يتحمل وحده مسئولية ذلك بوصفه ( الحاكم ) وبيده مقاليد الحل والعقد والنقض والإبرام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق