كان شمال اليمن يتمتع بنهضة علمية وثقافية زاخرة ، بل كان الأول من حيث الحركة العلمية في أقاليم جزيرة العرب حتى صار قبلة لكثيرين من الوافدين من مشاهير العلماء من مختلف جهات العالم الإسلامي ، ولاسيما في فترة تمدد دولة بني رسول التي بلغت من قوتها ومجدها أن أعلن أحد سلاطينها الخلافة الإسلامية في اليمن بعد اكتساح التتار للعراق .
لكن ابتليت اليمن في عصرها الحديث بوجود أجنبي مزدوج أتى في وقت كانت تتوزعها عدة سلطات سياسية ، أحدهما مكن لنفسه في شمال غربها والآخر ثبت وجوده في جنوب شرقها ، فالأول هم العثمانيون الأتراك الذين كانوا يمرون بأسوأ أدوارهم الأخيرة قبل الانهيار ، والآخر استعمار أوروبي هم البريطانيون الذين كانوا في عنفوان المد العسكري والحضاري لإمبراطوريتهم ، وما يهمنا هنا هو التأثير الاجتماعي والثقافي الذي خلفه كل منهما في قاطني موضع نفوذه .
وليس بخاف الأثر السلبي الذي أورثه الوجود العثماني على الوطن العربي في هويته وثقافته قبيل العصر الحديث وهو الأثر الذي أطال المثقفون المصريون تصوير جنايته على القلوب والعقول في تلك الفترة ، إلا إن مصر قد نأى عنها العثمانيون مبكرًا حيث طرقها المستعمر الأوروبي ممثلاً في الفرنسيين الذين لا يخفى ما جلبوه معهم لمصر من أسباب التحضر العلمي ، تلاه قيام دولة محمد علي باشا الذي اجتهد في ربط مصر بأسباب التطور الذي كان يعتمل في البلاد الأوروبية .
لكن شيئًا من ذلك لم يحدث في منطقة الشمال الغربي لليمن ، لا بل نكبت بعد رحيل العثمانيين بما هو أسوأ ، وهو قيام دولة مشوهة منغلقة كرست التأثير العثماني السابق وزادته وبالاً ، فازداد بذلك البون الاجتماعي والثقافي بين شطري اليمن ، وفي وصف ذلك يقول الدكتور المصري طه حسين في معرض حديثه عن الحالة الثقافية في أقاليم جزيرة العرب عند بداية عصرها الحديث :
" ليس في صنعاء مدرسة ولا فيها مطبعة ومصدر ذلك فيما يظهر إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاق أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعًا ، ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولابد من أن تقتحم الأبواب المغلقة " .
وصنعاء هي حاضرة شمال اليمن ، كما إن المراد بسواحل اليمن مدينة عدن التي هي حاضرة جنوبه ، وحضرموت منها على مرمى حجر .
والآن أترك إكمال المقال ، لمثقفينا في ( الشمال ) ، ليتحدثوا بأنفسهم عن ما آل إليه الحال ، من تباين ثقافي بتأثير تلك الفترة ، فهذا الأستاذ عبد الفتاح الحكيمي يقول :
" إن عوامل التجزئة والتفرقة التي كرستها السياسة الاستعمارية لم تكن لتتغلغل في أذهان الناس البسطاء وحدهم بل تجد أن المثقفين كانوا أكثر الناس وقوعًا في هذا المأزق الذي مزق الكيان الجغرافي والفكري على حد سواء " .
ويبين الدكتور صادق عبده علي قائد في كتابه ( التطور التاريخي للهوية الوطنية اليمنية ) الدور العثماني في إحداث ذلك التباين الفكري بقوله :
" إن العقلية العثمانية ظلت حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عقلية إقطاعية انعكست على مختلف سلوكياتها في شتى المجالات في مختلف الولايات العثمانية خاصة اليمن دون اعتبار للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية السائدة في معظم الأوروبية " .
وهو يقصد باليمن هنا شمالها الغربي - كما هي عادتهم - أما جنوبها الشرقي فكان واقعًا تحت تأثير ما أشار إليه من تطورات لخضوعه للهيمنة الأوربية ممثلة في الوجود البريطاني المباشر في عدن وغير المباشر في سائر الكيانات الجنوبية والشرقية ، ولاسيما حضرموت صاحبة أكبر جالية من المهاجرين الذين انفتحوا على العالم حولهم .
وبدوره يقول الدكتور عبد العزيز المقالح حول ذلك التباين بين ثقافة الفريقين بتأثير المستبد الإمامي والمستعمر الأوروبي :
" إن ثقافة بعض الأدباء المحظوظين في المناطق المستعمرة تتكون عادة من خليط من ثقافة المستعمر والثقافة الوطنية ... وهذا ما حدث في عدن ... وإذا كان هذا هو شأن الاحتلال فإن الاستبداد على النقيض في مجال التعليم وإن كان على اتفاق معه في مجال الاضطهاد فهو - أي الاستبداد – يحافظ على الجهل لنفسه أولاً ولأبنائه ثانيًا ثم لبقية المواطنين ثالثًا حتى يضمن السيطرة الأبدية على الشعب ، وهذا عين ما حدث في شمال الوطن حيث كان الجهل مخيمًا والتخلف يسود كل شيء ... وقد شكلت هذه الخلافات أهم الفوارق بين أدباء الشطرين " .
وقد ترتب على تلك الفوارق نتائج في التطور الاجتماعي والسبق الثقافي والأدبي في اليمن أخطأ كثيرون من دارسينا تقديره بسبب ( العقدة الشمالية ) ، والعقدة السلبية المعاكسة لكثير من مثقفي الجنوب وحضرموت ، حتى جاء هذا الباحث من ( الشمال ) – هو الدكتور محمد بن أحمد الزهيري - ليقرر الحقيقة واضحة لمن لا يستطيع أن يراها من ( المعقدين ) فقال :
(( أما القول أن شعر الإحياء ظهر في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات وهي مرحلة ظهور الحكمة وفتاة الجزيرة فإنما يدور حوله الزبيري وزملائه ، وهو قول صحيح إذا نظرنا نظرة تشطيرية ، حيث إن هذا القول ينطبق على الشطر الشمالي ( سابقاً ) الذي كان يعيش في عزلة سياسية وثقافية واجتماعية تحت ظلال الحكم العثماني والإمامي ، ولا ينطبق على الشطر الجنوبي ( سابقاً ) ... فهو لم يعرف العزلة لاسيما أصحاب حضرموت الذين تعودوا التنقل والسفر )) .
فمتى ستعود أيام بني رسول ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق