سرني زيارة رئيس جامعة حضرموت لمؤسسة حضرموت للتراث والتاريخ ، وهو الدكتور عبدالرحمن بامطرف خير أبناء مؤرخ حضرموت محمد عبدالقادر بامطرف ، وهي المؤسسة الطموحة التي تمثل جزءًا من رسالة والده في توثيق التاريخ الحضرمي ونشره .
والمؤرخ بامطرف (1915-1988) ، له باع ذائع في الكتابة التاريخية بأسلوبه العلمي المتقن والأدبي المتفنن ، وله إلى ذلك إشراقات متعددة في مجالات أدبية واجتماعية وفكرية عامة ، وكان رجلاً إداريًا وسياسيًا من الطراز الأول ممارسة وكتابة في هذا المجال ، ولئن كتبت عن بعض أدبه رسالة ماجستير فإن تراث الرجل ينتظر رسائل علمية أخرى مكملة لما بدأته عن أدبه ، وتجلي صفحات أخرى عن رؤاه الفكرية في السياسة والإدارة والاجتماع والشعر الشعبي والفلكلور ، وكذا عن تجاربه الحياتية في معترك العمل السياسي في المستشارية البريطانية وفي الإدارة القعيطية ، وما خاضه من مفاوضات خارجية في الشأن السياسي والاقتصادي ممثلاً للسلطنة القعيطية حتى اعتزاله للسياسة وتفرغه للتأليف ، وهي تجارب لا تخلو من طرافة وتبرز جانبًا مهمًا من صراع المثقف والسياسي .
لقد كان بامطرف من كبار رجالات السلطنة القعيطية التي كانت مهيمنة على معظم جغرافية حضرموت ، معجبًا بذوي الإصلاح من سلاطينها الطموحين مدافعًا عن حدودها التي تحدها من سائر السلطنات القائمة آنذاك ، ومع ذلك لم يكن يخفي رغبته التي يشاركه فيها كل الحضارمة في بناء دولة حضرمية موحدة ومتطورة سياسيًا ، وكان من بين المهللين لمشروع دستور تلك الدولة الذي نشر في مطلع الستينيات من القرن الماضي ، حيث رأى أن حلم الدولة الحضرمية قد بات وشيك التحقيق .
لكن ذلك المشروع وئد في مهده بسبب تنافس السلطانين الكثيري والقعيطي على ما يضمن مصالحهما وتخوفهما من فقد ما يتمتعان به من امتيازات في إطار الدولة الموءودة ، حينها اتسع أفق بامطرف لوحدة أوسع وأشمل هي وحدة جميع إمارات وسلطنات الجنوب العربي من المهرة حتى حدود عدن في دولة واحدة تكون متحررة من سطوة الاستعمار والحكم الوراثي .
ولقد كان بامطرف يرنو قديمًا إلى أن تقوم دولة واحدة تلم شتات الجنوب العربي مع تحرير العاصمة عدن من المستعمر الأجنبي ، لكن لم يكن يبصر ظروفًا ملائمة لتحقيق هذا الهدف حتى منتصف الستينيات ، وكان من قبل قد رفض الاتحاد الذي أسس في نهاية الخمسينيات لتكريسه سطوة السلاطين والمشايخ على مقدرات الجنوب ، فلما رأى ظروفًا أخرى تهيئت لوحدة أكثر شمولاً وتطورًا بدماء جديدة رحب بها وأمدها بكتاباته السياسية .
ولما نشأت الدولة الجنوبية الموعودة وتبنت خط الدعوة إلى توحيد اليمن في إطار دولة واحدة كبرى ، كان بامطرف من طلائع المرحبين بالفكرة ، وهو المثقف العارف بتاريخ المنطقة وطبيعتها ، فكان أحد المؤسسين لاتحاد الأدباء اليمنيين الذي كان الحاضنة الثقافية لفكرة وحدة اليمن قبل أن تصبح حقيقة سياسية واقعة منذ مطلع التسعينيات ، إلا أن بامطرف سبقته المنية دون رؤية تحقيق قيام دولة الوحدة قبل سنتين من قيامها .
ويكفي بامطرف فخرًا موسوعته العملاقة عن أعلام المهاجرين من أرجاء اليمن الطبيعية وقبائلهم وتتبع تراجمهم في كل صقع اتجهوا إليه ، وأعني بها كتاب ( الجامع ) الذي ينبغي أن يحظى بدراسة تبين الجهد المبذول فيه والمنهج الذي سار عليه .
ومع ذلك لم يسلم بامطرف من المنغصات في حياته من قبل الذين لا يفرقون بين مفهوم العمل الوحدوي وعمل العصيدة – وما أكثرهم اليوم – فلم يسلم من النبز بتهم المناطقية والعنصرية والانفصالية كما نشر عنه في بعض أعداد مجلة الحكمة اليمانية ، لا لشيء إلا لأنه سخر معظم جهوده العلمية في الكتابة عن حضرموت تاريخًا وأدبًا واجتماعًا وغير ذلك ، وفي ذلك يقول زميله الأستاذ عبد الرحمن الملاحي :
" سئل ذات يوم –أي بامطرف- عن رأيه فيمن يتهمه بالعصبية لحضرموت ، فأجاب بما مضمونه أنني كي أتصف بالشمولية لتاريخ اليمن علي أن أتعرف على كل الوقائع وحركة المجتمع في كل صقع منه ، ومن ثم الإعداد للتاريخ اليمني العام ، أنا لا أتعصب لحضرموت ، ولكني أتحدث عن موقع عشت فيه وعرفت من أخباره ما لم يعرفه الآخرون . "
لله درك يا بامطرف ماذا لو عشت لترى اليوم من يسيء كل الإساءة للآخر باسم الوحدة وهو أجهل الناس بمقصودها الذي اختزله في غصن قات وعلبة سحاوق .
إن هذا الرجل الراحل العظيم لم يجد نصيبه من التعريف به وبأعماله على المستوى الوطني والقومي ، فمع تعدد من ذيل لكتاب الأعلام للزركلي لم يجد بامطرف مكانًا في إحداها مع أن كتبه طبعت بعضها ونشرت خارج اليمن ، لا بل حتى الموسوعة اليمنية لم تجد ما تقوله عن بامطرف في كلماتها القليلة عنه سوى أنه كان عضوًا في إحدى اللجان .
واليوم ينبغي أن تتكاتف الجامعة والمؤسسة للبحث في تاريخ وآثار هذه البلدة الطيبة ونشره والتعريف بأعلامها لا على الصعيد المحلي وحسب بل على الصعيد العربي والإسلامي لاسيما وأن الحضارمة لم يقتصر نشاطهم على الوطن وحده كما هو معلوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق